فصل: فصل في الذكاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوجه الآخر أنه أراد بقوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أنه وفقهم للحجّ الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدِّين غيره، فحجّوا؛ فاستجمع لهم الدِّين أداء لأركانه وقيامًا بفرائضه؛ فإنه يقول عليه السَّلام: «بُنِيَ الإسلام على خَمْس» الحديثَ.
وقد كانوا تشهّدوا وصلّوا وزكّوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجّوا؛ فلما حجّوا ذلك اليوم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عَشِيّة عرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} فإنما أراد أكمل وَضْعَه لهم؛ وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام.
الخامسة والعشرون قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} أي أعلمتكم برضاي به لكم دينًا؛ فإنه تعالى لم يزل راضيًا بالإسلام لنا دينًا؛ فلا يكون لاختصاص الرّضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره.
و{دِينًا} نُصِب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان.
وقيل: المعنى ورضيت عنكم إذا انقدتم لي بالدين الذي شَرعته لكم.
ويحتمل أن يريد {رَضِيتُ لَكُمُ الاسلام دِينًا} أي رضِيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينًا باقيًا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئًا. والله أعلم.
و{الإسلام} في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] وهو الذي يفسّر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصَّلاة والسَّلام وهو الإيمان والأعمال والشُّعب.
السادسة والعشرون قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ} يعني من دَعَته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر المحرّمات في هذه الآية.
والمخمصة الجوع وخَلاَء الْبَطْن من الطعام.
والخمص ضمور البطن.
ورجل خَمِيص وخُمْصَان وامرأة خَمِيصَة وخُمْصَانة؛ ومنه أَخْمص القدم، ويستعمل كثيرًا في الجُوعِ والْغرث؛ قال الأعشى:
تَبِيتون في المشتى ملاءً بُطُونكم ** وجاراتُكم غرثى يَبِتْن خَمَائصا

أي منطويات على الجوع قد أضَمر بطونهنّ.
وقال النابغة في خَمْص البطن من جهة ضُمْره:
والبطن ذو عُكَنٍ خَمِيصٌ ليّنٌ ** والنّحْر تَنْفُجُه بِثَدْيٍ مُقْعَدِ

وفي الحديث: «خِمَاص البطون خِفافُ الظّهور» الخِمَاص جميع الخميص البطن، وهو الضّامر.
أخبر أنهم أعِفّاء عن أموال الناس؛ ومنه الحديث: «إن الطير تَغْدو خِمَاصًا وتَرُوح بِطانًا» والخميصة أيضًا ثوب؛ قال الأصمعيّ: الخَمَائِص ثياب خَزٍّ أو صوف مُعْلَمَة، وهي سوداء، كانت من لباس الناس.
وقد تقدّم معنى الاضطرار وحكمه في البقرة.
السابعة والعشرون قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير مائل لحرام، وهو بمعنى {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} وقد تقدّم.
والجَنَف الميل، والإثم الحرام؛ ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تَجَانَفْنَا فيه لإثم؛ أي مَا مِلْنا ولا تعمّدنا ونحن نعلمه: وكل مائل فهو مُتَجَانِف وجنِف.
وقرأ النَّخَعيّ ويحيى بن وَثَّاب والسُّلَمي {مُتَجَنِّف} دون ألف، وهو أبلغ في المعنى؛ لأن شدّ العين يقتضي مبالغة وتوغُّلًا في المعنى وثبوتًا لحُكْمه؛ وتفاعل إنما هو محاكاة الشيء والتَّقرّب منه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: تمايل الغُصْن فإن ذلك يقتضي تأوُّدًا ومقاربة مَيل، وإذا قلت: تمَيّل فقد ثبت حكم المَيْل، وكذلك تَصاون الرّجل وتَصوّن، وتعقَّل؛ فالمعنى غير متعمد لمعصية في مقصده؛ قاله قتادة والشافعي.
{فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فإن الله له غفور رحيم فحذف؛ وأنشد سيبويه:
قد أصبَحَتْ أُمُّ الخيارِ تدّعِي ** عليّ ذَنْبًا كلّهُ لم أصْنَعِ

أراد لم أصنعه فحذف. والله أعلم. اهـ.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {حرِّمت عليكم الميتة} مفسّرٌ في (البقرة)، فأما {المنخنقة} فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره.
قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك.
قال ابن قتيبة: و{الموقوذة}: التي تُضرب حتى توقَذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة.
و{المتردّية}: الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إِذا سقط.
و{النطيحة}: التي تنطحها شاة أخرى، أو بقرة، «فعيلة» في معنى «مفعولة» {وما أكل السبع} وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى: السَّبع: بسكون الباء.
والمراد: ما افترسه فأكل بعضه {إِلا ما ذكيتم} أي: إِلا ما لحقتم من هذا كله، وبه حياة، فذبحتموه.
فأما الاستثناء، ففيه قولان:
أحدهما: أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله: {والمنخنقة}.
والثاني: أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول.

.فصل في الذكاة:

قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن.
وهو تمام السِّن.
قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهمًا تامًا، سريع القبول.
وذكّيت النار، أي: أتممت إِشعالها.
وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف، أو ذنب يتحرك، فأكله حلالٌ.
قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به، حل بالذبح، فإن كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فإن لم تكن حياته مستقرّة، وإِنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شُقَّ جوفه، وأُبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله.
ومن الناس من يقول: إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت.
ألا ترى أن رجلًا لو قطع حُشْوَةَ آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان.
إِحداهما: أنه الحلقوم والمريء، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئًا، لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله.
والثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين.
وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإِن لم يقطع الحلقوم.
وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفَس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة.
والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح.
فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر سواء كانا منزوعين، أو غير منزوعين.
وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين.
فأما البعير إِذا توحش، أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره.
وقال مالك: ذكاته ذكاة المقدور عليه.
فإن رمى صيدًا، فأبان بعضه، وفيه حياة مستقرة، فذكّاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان.
قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} في النصب قولان:
أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتُعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النُّصب، وقيل لأجلها، فتكون «على» بمعنى «اللام» وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله: {فسلام لك} [الواقعة: 91] أي: عليك، وقوله: {وإن أسأتم فلها} [الاسراء: 7].
والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرِّحون اللحم عليها، ويعظمونها، وهو قول ابن جريج.
وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النَّصْب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ، وجمعه أنصاب.
قوله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام} قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، وهو استفعلت من القسم [قسم الرزق والحاجات].
قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم.
والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئًا بينهم، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب.
قال سعيد بن جبير: الأَزلام: حصى بيض، كانوا إِذا أرادوا غدوًا، أو رواحًا، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به.
وقال مجاهد: الأزلام سهام العرب، وكعاب فارس التي يتقامرون بها.
وقال السدي: كانت الأزلام تكون عند الكهنة.
وقال مقاتل: في بيت الأصنام.
وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة.
قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك، وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
قوله تعالى: {ذلكم فسقٌ} في المشار إِليه بذلكم قولان:
أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وبه قال سعيد بن جبير.
والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته.
قوله تعالى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} في هذا اليوم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم.
والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.
والثالث: أنه لم يرد يومًا بعينه، وإِنما المعنى: الآن يئسوا كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج.
قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد.